أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وجعل شريعته هي الشريعة الخاتمة التي لن يأتي بعدها غيرُها، بل أنزلها لتكون حاكمة على الناس في جميع الأماكن والأزمان.
ولذلك حوت هذه الشريعة المباركة من أسباب الدوام ما يجعلها صالحة للديمومة والبقاء ما بقي الليل والنهار.. ومن مميزات بقاء هذه الشريعة الغراء:
1- ربانية المصدر:
فتشريعات الإسلام مصدرها الوحي المعصوم سواء كان كتاب الله الكريم أو سنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، ثم الإجماع والقياس المعتمدان على الأصلين الأولين.
فالمصدر الأول القرآن:
كتاب الله وهو كلامه الذي أنزله على نبيه ليكون دستورا لخلقه، بين الله فيه كل ما يحتاج البشر، إجمالا أحيانا وتفصيلا أحيانا أخرى، وجعله كتاب هداية ونور.
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}... (الإسراء : 9). فهو يهدي للتي هي أقوم في العقائد، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات، وسائر ما يحتاجه الخلق.. {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}... (إبراهيم : 1).
والسنة هي الوحي الثاني:
أوحاه الله إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فهي صنو القرآن في الأوامر والأحكام والتشريع، ولا تقل السنة أهمية عن القرآن، بل قد قال بعض أهل العلم: (إن القرآن أحوج إلى السنة منها إلى القرآن).
وتوضيح ذلك أن السنة تبين مبهم القرآن، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}... (النحل : 44).
وقال صلى الله عليه وسلم: [ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه] (رواه أبو داود).
وقال: [ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله.] (رواه الترمذي وحسنه).
وهؤلاء من أجهل الخلق بالكتاب والسنة، فلو كانوا يفقهون أو يعقلون ما في القرآن كما يدعون لعلموا أنه لا غنى للقرآن عن السنة بحال.
ففي القرآن قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ} فمن أين عرفت مواقيتها وأركانها وشروطها وأعداد ركعاتها إلا من السنة؟.
وفي القرآن قوله تعالى: {وَآتُواْ الزَّكَاةَ} فمن الذي عرف الناس مقاديرها وأنصباءها ومصارفها ومن يستحقها ممن لا يستحقها؟.
وفي القران قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}... (آل عمران : 97) فمن أين عرف الناس الحج إلا من قوله صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم)؟.
وفي الحدود قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.... (المائدة : 38) .. فهل نقطع اليدين معا؟ ومن أين نقطعها؟ من الكتف؟ من الكوع؟ من المرفق؟ فأخذ علم ذلك كله من السنة.
فالسنة المطهرة وحي ومصدر تشريع كما القرآن تماما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}... (الحشر : 7)، وقال تعالى : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}... (النساء : 65)، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}... (آل عمران : 31)، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.... (النور: 63).
وكون التشريع رباني المصدر يميزه بميزتين:
الأولى: العلم المطلق:
فمصدر التشريع هو الله العالم الذي أحاط بكل شيء علما، والذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.. ويعلم مكنونات الصدور، ومآلات الأمور، ومن بعض علمه: علمه بما يصلح الناس من الأحكام والتشريعات وما يفسدهم، فهو خلقهم وهو أعلم بهم؛ كما قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.... (الملك : 14).
وكل شرع أو قانون ففيه من الجهل والضرر بقدر جهل صاحبه وواضعيه.
الثانية: الحكمة التامة:
فالله هو الحكيم، وأصل الحكمة وضع الأمور في نصابها والأشياء في أماكنها، فلا خلل ولا نقص بل كل شيء يجري على الحكمة.
والحكمة في التشريع وضع العقوبة على قدر الذنب بلا زيادة ولا نقصان. وإتيان الحكم بالثمرة المرجوة من ورائه، وهو ما يميز شرعة الإسلام عما سواها.
2- الشمولية:
فشريعة الله أتت جامعة لكل مناحي الحياة، ومبينة لكل ما يحتاجه الناس.. فجاءت الشريعة مبينة لأسس الحكم والسياسة الشرعية وعلاقة الحاكم بالمحكوم والرؤساء بالمرؤوسين، وأصوليات الاقتصاد والمعاملات والبيوع، وقواعد علم الاجتماع والأخلاق، والتعامل مع أهل الذمة وغير المسلمين.
وما تركت الشريعة - كتابا أو سنة - بابا يحتاجه الناس إلا ووضعت لهم أصول وقواعد وأسس التعامل فيه، حتى بر الأبناء بالآباء، وتربية الآباء للأبناء، وحقوق الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، وآداب الضيافة، والاستئذان، حتى أخص خصوصيات الإنسان عندما يأتي الرجل أهله علمته الشريعة المباركة وأدبته ففي صحيحي البخاري ومسلم قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا).
وقديما أراد بعض المشركين الاستهزاء بدين الإسلام ونبيه وأهله فقال رجل منهم لسلمان الفارسي رضي الله عنه: (قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال: أجل. لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم) رواه مسلم.
فشريعة لا تترك لأصحابها وأتباعها مثل هذه الأمور حتى تبين لهم فيها أدبا وعلما هل تتركهم فيما هو أكبر من ذلك؟ وهل يجوز بعد كل هذا أن نتركها إلى غيرها، أو أن نتبع غيرها أو أن نرضى بسواها؟
3- الجمع بين الثبات والمرونة ( قابلية التطور):
فقد وضع الله هذه الشريعة لتصلح لكل زمان ومكان، وكل المخلوقين على مدار الأزمان؛ ولذلك كانت لها خاصية التطور بحيث تسع أحكامها كل جديد ويدخل تحت أصولها كل مستحدث، ففيها الثابت الذي لا ينبغي أن يتغير بتغير الزمن، كأمور العقائد وأمور العبادات، ومكارم الأخلاق، وتحريم القتل، والخمر والربا، والحدود والعقوبات، فهذه باقية في الأصل ولا ترفع إلا لضروريات تقدر بقدرها.
وأما ما يقبل التغير من الأمور فقد وضعت لها الشريعة قواعد تستوعب كل متطور ويدخل تحتها كل جديد ولا بد أن يجد كل أمر مستحدث حكما له في الدين.
وقد رأينا أمورا استجدت فانبرى لها علماء الإسلام ليبينوا صحتها من فسادها وحلالها من حرامها كالاستنساخ، وتأجير الأرحام، وبيع الأعضاء، ومسائل كثيرة في البيع والشراء والمعاملات، وسمعنا من علمائنا عن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال.
4- التوازن بين المادية والروحية:
فالله هو الذي خلق الإنسان، خلقه من تراب وطين ثم نفخ فيه من روحه، فكان بشرًا سويا فيه من الأرض طينها، ومن السماء روحها، وهو محتاج إلى ما يصلح روحه وبدنه جميعا. فجاءت شريعة الإسلام لتوازن بين الأمرين:
ففي جانب الروح:
العبادات: صلوات، وزكوات، وصيام، وأمر بالتقوى، والخوف من النار، ومراقبة الله الواحد القهار.
وفي جانب البدن المادي:
- أباحت الزواج تحقيقا للذة البدن وردا للشهوة عن الحرام.
- وأحلت التنعم بالمطعومات والمشروبات الحلال، ونهت عن تعذيب النفس بالحرمان أو الوصال بالصيام الدائم.
- وطالبت براحة البدن وعدم تعذيب الجسم ولو في العبادة.
وخير دليل على هذا وأوضحه ما ثبت في صحيح البخاري أنه: (جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني]).
ورغم أن مقصد الثلاثة هو التقرب إلى الله والرغبة في زيادة التعبد وطلب رضاه سبحانه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك خروجا عن جادته وتنكبا عن طريقته..
وذلك أن ما أرادوه مخالف للفطرة وأصل الخلقة فلا يمكن لأحد أن يغالب النوم ولا أن يترك الطعام بل ولا شهوة النكاح التي ركبها الله فيه لحكمة أرادها، ولما أراد قساوسة النصارى أن يترهبنوا ويحاربوا هذه الفطرة في العلن خانوها في السر وظهر فيهم الزنا بينهم وبين الراهبات في دور عبادتهم، بل وفشا فيهم اللواط والسحاق حتى ضج منهم ومن فضائحهم أهل ملتهم..
وهذا جزاء كل من يحاول معاندة فطرة الله تعالى، ومن هنا يعلم فضيلة شرعة الإسلام ومدى مراعاتها لأحوال العباد على الدوام.
5- التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة:
فكل إنسان له دوافعه ورغباته، ويسعى لتحقيق مصالحه الخاصة وأمنياته، وقد تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة، فجاءت الشريعة لتنظم الأمر وتجمع بين المصلحتين.. فلا تطغى واحدة على الأخرى إجحافا بها.
فصانت الشريعة للإنسان حقه فيما يملك فلا يُعتدَى عليه قال صلى الله عليه وسلم: [فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا] متفق عليه.
وللفرد حق الانتفاع بما يملك ما لم يضر بالآخرين، ولا يفسد حياة الجماعة؛ ومن ثم منعت الشريعة بيع المخدرات ومنعت الربا والزنا وأشباهها مما فيه بعض مصلحة لفاعله لكنه يعود بالضر على المجموع، كما منعت أيضا الاحتكار لعدم الإضرار بالجماعة، ولا يؤخذ منه ماله أيضا ولكن يؤمر أن يبيع بثمن المثل مراعاة لحقه وحقوق الناس.
6- الواقعية:
فالشريعة تتعامل مع واقع لا مع خيال، فهي تشرع للأغنياء والفقراء وهناك مرضى وهناك أصحاء، وهي تتعامل مع نفوس بشرية تخطئ وتصيب، وتعصي وتطيع، وتنفق وتشح، وربما تضطر أحيانا لتخفيف أو تيسير فراعت الشريعة كل هذه الأمور ورفعت عن الناس الحرج: ففي سورة البقرة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا}، وفي سورة الحج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وفي سورة المائدة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وفي الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: [صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب].
وفي الصيام قال سبحانه: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)
وجعل الحج على من استطاع إليه سبيلا فقط. ومن لا قدرة له عليه سقط عنه.
وراعت الشريعة الطبيعة البشرية فليس أحد بمعصوم فإذا انتهز عدو الله إبليس منك غفلة أو غضبا أو شهوة فاعلم أن [كل ابن أدم خطاء وخير الخطائين التوابون].
ومن نظر في تشريع الطلاق لإنهاء حياة لا توافق فيها أو وقف مضرة لأحد الطرفين، أو نظر إلى التعدد وما فيه من خير للنساء قبل الرجال وكونه حلا لمشكلات اجتماعية كالعنوسة وغيرها، أو أحكام النظر والنهي عن الاختلاط المحرم لمنع آثاره المدمرة على المجتمع .. علم من خلال هذه الأحكام وغيرها واقعية الشريعة وصلاحيتها لضبط حياة الناس وواقعهم.
7- العدالة المطلقة:
قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ}... (الأنعام : 115) فشريعة الله هي القول الصدق وهي الحكم العدل {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}... (المائدة : 42)، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}... (المائدة :
.
فكل الناس أمام شريعة الله سواء، فليست هي شريعة تطبق على الفقراء دون الأغنياء، ولا على المرؤوسين دون الرؤساء، ولا على المملوكين دون السادة، لا بل هي حكم الله على رقاب جميع العباد.
وقد أوضح هذا تمام الوضوح حديث المخزومية حين شفع فيه أسامة بن زيد فكان رد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه البخاري.
8- العالمية:
فهي شريعة نزلت لتحكم الدنيا كلها، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}... (الأنبياء : 107)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ}... (سبأ : 28)، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}... (الفرقان : 1).
فالأصل أن تكون شريعة الله هي الحاكمة على جميع العالمين، وأن يحكم أهلها بين الناس، فانظر كيف ضُيعت الأمانة وانقلب الحال، فصار يحكمنا من كنا نحكمه، ويصرف أمورنا من كنا نصرف شؤونه.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنون بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم) (صحيح الترغيب والترهيب).
9- الرقابة المزدوجة:
وهذه ميزة لا تكون في غير أصحاب هذه الشريعة، فأهلها يعلمون أن الله مطلع عليهم في سرهم وجهرهم فلا يستطيعون أن يخالفوها ظاهرا أو باطنا أو مع الناس أو بعيدا عن أعينهم..
حدث في نيويورك قبل سنوات أن انقطعت الكهرباء فوقعت عمليات سلب ونهب واغتصاب لم يسبق لها مثيل، ففي ظلام النهار والليل وغياب رجال القانون استغل ضعاف النفوس الموقف.
وعندما وقع الإعصار في المسيسيبي كان أكثر الناس عدوانا وظلما الشرطة نفسها ولا تسل عن حالات السرقة والسلب والاغتصاب.
فأين هذا من ماعز الذي زنا فما رآه أحد ولا علم به أحد حتى أتى بنفسه إلى النبي ليطهره وهو يعلم أن جزاء فعله الرجم، فجاء راضيا بحكم الله ليلقاه في الآخرة طاهرا مطهرا ولو شاء لسكت ولما علم به أحد غير الله تعالى، غير أنه يعلم أن الله يراه وهذا ما حمله على فعل ما فعل.
لقد أرادت أمريكا في الستينات أن تمنع الخمر بالقانون فأنفقت مئات الملايين من الدولارات وما زاد الناس إلا شربا للخمر ومعاقرة لها، ولما أراد الله أن يحرم الخمر على المسلمين كانت بضع كلمات في آيتين من كتاب الله كفيلة بهذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}... (المائدة: 90-91).
وهذا هو الفارق بين كل قانون وضعي وبين قانون الله تعالى، ولذلك كان العجب كل العجب أن يترك أهل هذه الشريعة شريعتهم ليبحثوا عن حثالات الأفكار وزبالات الأوهام وخبالات الأفهام وهو أمر جدير بالتعجب والاستنكار استنكره عليه خالقهم سبحانه فقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}... (المائدة : 50).