إذا كان هناك اختلاف في تأويل الحكامة بين رجال القانون والسياسة والاقتصاد وعلماء الاجتماع فإنهم يجمعون حول الهدف منها وهو التدبير الرشيد للشأن العام، عبر تحقيق التعاون بين مختلف السلطات السياسية والاجتماعية.
غير أن هذا المفهوم أدرج بشدة في الساحة الدولية سنة 1989 في معرض الانكباب على تشخيص الأزمة الاقتصادية في إفريقيا، حينها أثار اهتمام العديد من الأكاديميين الذي دخلوا في نقاش حول المفهوم. ولم يستطيعوا الوصول إلى معايير محددة وبرز ذلك بشكل جلي في تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة فهناك تعريفين ،التعريف الأول للحكامة ركز على « ممارسة السلطة الاقتصادية و السياسية و الإدارية لإدارة شؤون الدولة على كافة المستويات و يشمل ذلك الآليات و العمليات و المؤسسات التي يمكن للأفراد و الجماعات من خلالها التعبير عن مصالحهم و ممارسة حقوقهم القانونية، و الوفاء بالتزاماتهم، و تسوية خلافاتهم. فيما اتجه تعريف آخر ضمن نفس التقرير إلى إعتبار أن الحكامة هي:" الحكم القائم على المشاركة و المساءلة و دعم سيادة القانون" .
وعلى العموم فإن هناك اتفاقا على كون الحكامة الجيدة هو الحكم القادر على وضع الأولويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية قصد تلبية احتياجات الأغلبية المطلقة في المجتمع بشكل يضمن التعبير عن أكثر الأفراد فقرا وضعفا عند اتخاذ القرار حول تخصيص مواد التنمية، وبذلك يمكننا المغامرة «علميا» القول أن الحكم الرشيد يقتضي أن يتوفر على العديد من الخصائص أهمها.
+ المشاركة: أن يشرك المواطن في اتخاذ القرار سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
+ حكم القانون: تطبيق القواعد القانونية دون تحيز و بشكل عادل.
+ الشفافية: توفير الحرية في الوصول للمعلومات، عبر فتح المؤسسات و كل العمليات المجتمعية مباشرة لجميع المهتمين بها الشيء الذي يمكن من مراقبتها.
+ الاستجابة: أن يكون هدف المؤسسات و العمليات المجتمعية هو إشباع حاجيات من لهم مصلحة بها.
+ التوافق: عبر التوفيق بين المصالح المختلفة من أجل التوصل لتوافق واسع بين جميع المتدخلين.
+ المساءلة: تقتضي الحكامة أن يكون صانع القرار سواء كان يمثل الحكومة أو القطاع الخاص مسؤولا أو من المجتمع المدني يخضع للمسؤولية و المحاسبة من قبل المواطنين و المؤسسات المعنية.
+ الفاعلية: أن تتجه كل العمليات لإشباع الحاجيات بالكفاءة التي تقتضي الأخذ في الاعتبار الإستخدام الملائم للموارد.
+ رؤية إستراتيجية: أن يتوفر المسؤولون على رؤية ثاقبة تقوم على أساس تنمية العنصر البشري و الاستجابة لمتطلباته.
• أسس الحكامة الجيدة:
1+ تحديد وظائف السياسة الاجتماعية.
تقتضي الحكامة الجيدة امتلاك نظرة شمولية تضع برنامجا واضحا يؤدي للوصول للهدف المتوخى عبر توضيح أسلوب للعمل، واضح المعالم قائم على المستوى القريب و البعيد، و الذي يلزمه التنسيق بين مختلف البرامج وجهود الأجهزة المختلفة القائمة على تنفيذ المخطط مما يسهل وضع التنظيمات التنسيقية لتحقيق الأهداف الإستراتيجية للمجتمع. هذا الأمر يقتضي تصحيح الأولويات إبان وضع برنامج يروم الربط بين المبادئ الأخلاقية و القيم و بين الجهود التنفيذية عن طريق سياسة اجتماعية تمكن من استثمار للإمكانيات البشرية والمادية والتنظيمية المتوفرة بتوزيع الأدوار والحدود و الجزاءات بين الأفراد و الجهة من اجل تحقيق النمو المستمر و دفع الجهة للتقدم اجتماعيا و اقتصاديا، على أساس التخطيط العلمي الذي يرتكز على:
* القدرة على التنبؤ العلمي و الاستفادة من مختلف العلوم الحديثة التي تمكن من استشراف المستقبل.
* تحقيق التوازن بين حاجات المجتمع من ناحية الموارد البشرية و المادية.
2+ أهم الوظائف الاجتماعية للحكامة الجيدة:
* الوظيفة التنموية: عبر دعم و تقوية الأسرة، من أجل ضمان تكوين المواطنين تكوينا ملائما يمكنهم من الإسهام في التنمية خاصة الأطفال و الشباب و النساء بشكل يدفعهم للتعاون و التأقلم مع المتغيرات الاقتصادية و الاجتماعية. بشكل يقوي البعد الثقافي والبيئي.
* الوظيفة الوقائية: تروم استباق كل التداعيات التي من الممكن أن تقع من خلال الاعتناء بالفئات المهددة بالتأثير السلبي من عملية التنمية بما تفرزه من تصنيع و تحضير و تغير قيمي.
* البعد العلاجي: يشكل نقلة نوعية في سياسة الرفاهية الشيء الذي يتطلب ضرورة إعادة توجيه الموارد والبرامج و الأشخاص قصد تحقيق الدمج و التكامل بين جميع القطاعات المجتمع في التنمية الشاملة.
3+ التخطيط الاجتماعي:
عبر دراسة الترابط الديمقراطي من حيث الهدف والوسيلة، بإحداث تخطيط يوفق بين حاجيات وأهداف المجتمع من خلال التأكيد على مفهوم الحرية الإنسانية بشكل يمكن من الحيلولة دون حدوث تصادم بين الهدف و الوسيلة.
فالتخطيط يجب أن يكون واقعيا يراعي الإمكانيات المالية والبشرية للمجتمع ودرجة عالية من الشمولية و التكامل يقوم على أساس استحضار كل الجوانب البنيات الاجتماعية و الاقتصادية في اتجاه يفسح المجال لكل قطاعات المجتمع مما يجعل التخطيط متكاملا و شاملا.
إن التخطيط الناجح هو التخطيط الطموح الذي يمكن من تجاوز الحاضر وتجنب الصعاب و تحقيق الأهداف العليا التي ترسمها السلطات المركزية.
لذا وجب أن يكون تحديد خطة العمل في شكل يقسم مراحل التخطيط إلى حلقات للوصول إلى الهدف العام عبر إتباع أسلوب التتابع والاضطراد في التخطيط الاجتماعي والاقتصادي بشكل يحول دون خلق فجوات و تجاوز كل النتائج السلبية.
4+ تحديد الأولويات و الاحتياجات.
* تحديد الأولويات:
تمر عملية تحديد أولويات التخطيط عبر قياس حاجيات أفراد المجتمع بناء على معطيات واقعية تؤسس على أساس قياس الموارد و الحاجيات الموجودة فعلا و التي هي قابلة للتحقيق.
عبر إنجاز دراسات تستخدم مقاييس دقيقة و واضحة و محددة لقياس الاحتياجات الإنسانية قبل تخطيط البرنامج قصد مواجهة الحاجيات و بناءا على هذه الدراسة تقدر الأولويات.
* تقدير الاحتياجات و دورها في عملية التخطيط:
تنكب عملية التقدير على معالجة عملية عدم التوازن داخل الجماعة بين المطالب والحاجيات التي يحس بها أفراد الجماعة بغية تحقيق أهدافهم التي ينبغي معها خلق ظروف وإمكانيات و موارد معينة عبر تقسيمها على الشكل التالي:
نطاق الحاجيات: تقسم إلى حاجيات جماعية و فردية، ومجتمعية.
طبيعة الحاجيات: تقسم إلى حاجيات مشبعة، و حاجيات جسمية و حاجيات عقلية.
ومنه فالحكامة إذن دعوة صريحة وفعلية إلى ضرورة الحجر على الديمقراطية التمثيلية التي تحتكر سلطة الولاية على الشأن العام، وتدعو إلى ضرورة تطعيم هذا النهج اللامركزي الذي أثبت فشله بجرعات وأشكال جديدة من الديمقراطية التشاركية تمكن من إشراك جميع أطراف معادلة الإعداد الفعال، المدافع عن المجموعات الهشة اقتصاديا واجتماعيا والمطالبة بضرورة صيانة الوسط الثقافي واعتباره في عمليات التهيئة.
وختاما، الحكامة هي الحد الفاصل بين الديمقراطية في شكليها التمثيلي والبرلماني الممركز ودعوة صريحة على ديمقراطية تشاركية مؤسسة على المساهمة والمشاركة والتوافق في صنع وتنفيذ وتقييم برامج ومشاريع التنمية على أرض الواقع، وهي قناة أساسية تمكن من الاستفادة من نتائج التنمية المستدامة.