منذ البدايات الأولى للكائن البشري على وجه البسيطة وهو يكابد ويعاني من أجل ضمان ضرورات بقاءه على قيد الحياة، فيكد ويجهد ويقوم برحلات يخاطر فيها بحياته من أجل ضمان ما يسد به رمقه ويحمي به أفراد قبيلته من الموت المحقق، والمرتبط بقلة الغذاء واللباس وبساطة المأوى الذي لا يقيه من التقلبات المناخية والكوارث الطبيعية فيهلك صريعا بسبب الجوع أو البرد القارس أو الأمراض الفتاكة التي لا يملك أمامها إلا التشبت بأمل البقاء، ولزوم تقاليد بسيطة ومعتقدات غابرة في الزمن رغبة في الشفاء، فكان تشبته بالحياة كتشبت طفل رضيع بمرضعته.
إن حرص الإنسان على البقاء وإنجدابه لملذات الحياة غريزة فطر عليها، تطرقت لها الشرائع السماوية بكثير من التفصيل والدقة، لخصت في مجملها أن المخلوقات البشرية جبلت على حب المال والمتاع والأولاد والنساء، فقال عزوجل في كتابه الحكيم " ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) ، لذلك فإن حرص الإنسان وتشبته بالحياة ومتاعها الفاني يبقى حتى وهو على فراش الموت يكافح، بل إنه كثيرا ما ترهقه جلسات العلاج المتعبة التي يقف أمامها بصبر لعله يحظى بفرصة للشفاء، ويوافق بدون تردد أن يتخلى عن عضو من أعضائه العليل والحيوي في تكوين الجسم مقابل ان يكتب لباقي الأعضاء العيش لمدة أطول.
لكن كل هذا وذاك تغير فأصبح السعي نحو الموت يضاهي سعي أجدادنا للحياة بكل مظاهرها المتواضعة- البسيطة والممتعة، قد يجتمع الناس جميعا على أن هذا التحول المفزع ناتج عن ضعف الإيمان أو البعد عن الله بشكل أكثر تركيز ووضوح، وهو سبب لن يختلف حوله إثنين عاقلين، لأن ما رأه السلف من هموم وغموم ما لن تستوعبه العقول، لكنهم فكروا في الحياة ولم تراودهم فكرة إنهاء الحياة أو على الأقل كانت حالات معزولة قد تكون مسبباتها حالة وحيدة هي الألم المفرط وفي مجتمعات لم تكون تعرف الدين الاسلامي الذي يحرم قتل النفس، بل وحتى موضوع القتل الرحيم لا يعترف به ديننا الحنيف جملة وتفصيلا، فقد يمن الله بالشفاء بالرغم من فقدان كل أمل في النجاة كما أن الموت قد يخطف حياة المريض رغم ثقة الأطباء بنجاح العلاج.
لكننا بشر خلقنا ويحكمنا الضعف وتتحكم أحيانا كثيرة في قراراتنا العاطفة قد نجد لأسرة المريض مرض الموت وله أيضا مبرر في قرار إنهاء الحياة، وذلك إذا ما قارنا الموت الرحيم بالإنتحار الذي ينهي من خلاله شخص حياته لأسباب عديدة غالبا ما لا ترتبط بالمرض بشكل أساسي، أو يتركب المرض نتيجة تلك الأسباب، ليتكون لذيه قناعة مشوبة بعيب عدم التأمل في الكون والإنعزال عن العالم الخارجي وعن المعتقدات والروابط المجتمعية، ونتيجة ذلك يفكر هذا الشخص في ترك كل شيء ومغاذرة الحياة لعالم مجهول، تفاصيله مرعبة عن السبب الذي بسببه غاذر الحياة، لأنه لا يستوعب أن ينهي الإنسان حياته وبطرق بشعة وهو في كامل قواه النفسية والعقلية، لكن أن تطغى الظاهرة وتأخذ مظاهر خطيرة، لدرجة يصعب ربطها بحالة إجتماعية، ولا بمستوى ثقافي، ولا بفكر معين، ولا حتى بسن معين، فالأمر يحتاج إلى وقفة من الجميع لدراسة الظاهرة لمعالجة أسبابها والوقوف على مكامن الخلل.
إن بروز هذه الظواهر في المجتمع وبالشكل المتقدم يشبه لحد كبير الحرارة-المناعة التي تصيب جسد الإنسان لتنذر بما لا يدع مجالا للشك أن هناك خلل أصاب عضو من أعضائه، وينبغي زيارة الطبيب للكشف عنه ومعالجته، فكل تأخير وإن طال يؤدي إلى تفاقم الخلل، وقد يؤدي إلى الاعاقة في العضو او الأعضاء أو حتى إلى الوفاة. لكن إعاقة الفرد أو وفاته أهون بكثير من إعاقة المجتمع أو وفاته لأن التأثير سيعم الأجيال الحالية والمستقبلية، خصوصا إن أخذ هذا الخلل معنى أوسع وإنتشار على مختلف فئات المجتمع على الترتيب التالي، والذي لا يستثني فئة والتي لكل فئة حالات إنتحار يعرفها الجميع أو يكفي زيارة المواقع الأخبارية للإطلاع على تفاصيلها المرعبة:
أطفال، ثم تلاميذ، ثم طلبة، ثم موظفون صغار، ثم رجال ونساء في مناصب المسؤولية، من كل الفئات الكل ينتحر والطريقة بين البشعة والأبشع الأسباب غامضة والدوافع مجهولة كيف لا والمنتحر يترك وراءه طفلا رضيع أو والدين بدون معيل...، فإستفحال ظواهر في المجتمع مثل الانتحار تبرهن على وجود خلل به بل خلل كبير، فليس هناك أسوء من أن ينهي الشخص حياته ليترك أسرته بها إعاقة مدى الحياة، تكافح مع نظرة المجتمع السلبية للمنتحر والتي لا ترحم، ومتابعة لنسج الرويات والقصص حول الطريقة التي نفذ بها الإنتحار، وأيضا صور المنتحر بمختلف الأبعاد وهو سابح في دمائه، والتي لا تترك مجالا إلا ونشرت به، ويمكن أن تصبح هذه الحادثة تأريخا بالأحداث والوقائع الماضية، وهذا ما يبرهن أن تأثير ذلك دائم ومستمر على محيط المنتحر، فهي صورة قاتمة لواقع أصبح ينذر بالخطر.
إنه واقع مزعج نعايشه ونترقب من المنتحر المقبل؟ وكيف هي الطريقة؟ وما هي الأسباب؟ ليسيطر علينا النسيان دون أن نحلل ونفكر في هول ما سمعنا او رأينا، ونتائج ذلك على الأسرة التي تعد الخلية الأساسية للمجتمع، وأيضا على محيط المنتحر، أما عن الأسباب فقد يكون الإنتحار ناتج عن ظلم لم يستطيع المنتحر تحمله، ولا تحمل تبعاته في العمل أو الشارع لنظرة المجتمع القاسية، أو قد يكون الإنتحار حلا للهرب من تبعات أخطاء وتجاوزات المنتحر ، والتي من المترقب عقابه عليها، وقضاء بسببها ما تبقى من حياته داخل أسوار السجن، أو سببه مشكل عاطفي غالبا ما يرتبط بأشخاص في مرحلة المراهقة، وذلك حين يعجز المتحابين في الوصول للزواج او يفرض- يتقدم لأحدهما زوج آخر فتتبخر القصة العاطفية، فينتج عن ذلك إحتمالين لا ثالث لهما غالبا وهما: إما جريمة قتل أو الإنتحار بصورة تبعث على الشفقة بكتابة عبارات حب على الجسد وتنفيذ الإنتحار أو ينتحر المتحابين مع بعض، أو بصور أخرى لكن يبقى الموت واحد، وهي حالات كثيرة ومتنوعة تكاد لا تخلوا منها واجهات الصحف اليومية ووسائل الإعلام بمختلف تقسيماتها.
وختاما لهذا التحليل الموجز ولوجهة النظر الخاصة في الموضوع التي تجعل من الانتحار جرس إنذار لخلل عميق في المجتمع، إذ ينبغي تظافر الجهود لرصده ومعرفة أسبابه بدقة في سبيل البحث عن سبل تجاوزه، والتي لن تخرج عن إطار الإصلاحات التي تقوم بها الدولة من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية التي بها خلل عميق، وتدعيم دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات، الختام سيكون برسالة لكل من تراوده فكرة الإنتحار لسبب من الاسباب مهما كان هذا السبب بشعا فلن يصل لبشاعة الإنتحار، ودرجة تأثيره على المحيطين بالمنتحر، فمهما كانت الدوافع والأسباب فلا مبرر للإنتحار، ويكفي قبل الوصول لمرحلة تنفيذه زيارة مركز لتصفية الدم أو أي مستشفى للوقوف على المعاناة الحقيقية والمشاكل العويصة، والتي يتشبت أصحابها بالأمل والصبر، ولا تغاذرهم الإبتسامة حتى وهم في لحظة الإحتضار، بل زيارة فقط دار للأطفال المتخلى عنهم، وهم أطفال كباقي الأطفال، بل يمكن أن يتفوقوا عن البعض منهم بالجمال والذكاء، فهؤلاء دنبهم الوحيد ولدوا نتيجة علاقة غير شرعية أو تخلى عنهم الوالدين بعد الولادة او لأسباب كثيرة أخرى، فهم لا يعرفون شيء إسمه حنان الأم ولا شيء إسمه عطف الوالد، كما يمكن القيام بجولة ليلية على دروب وأحياء المدينة لأي مدينة لنرى عشرات الظواهر السيئة والتي لم يبتلنا الله بها، فالانتحار يأتي نتيجة لحجب الذات عن العالم الخارجي وعن كل المعتقدات والروابط التي لا محالة ستثني صاحبها عن الاقدام على الإنتحار مهما خطط لتنفيذه، هذا الحجب والإنعزال يبقي التفكير محدودا ولأيام وشهور في المشكل الذي لا يغاذر الشخص إلا وهو سابح في دمائه...