'بوليس' بجيوب مثقوبة ورجال أمن فشلوا في تحقيق الأمن لأسرهم
16.05.2009
هم رجال يشار إليهم بالبنان يهابهم المجتمع، وبدورهم يخافون دورة الزمن اللعين، يعانون عقدة نظرة شريحة واسعة من المجتمع لهم، ويقتنصون الفرص لإثبات براءتهم والبوح بما يخالج صدورهم. يعلمون جيدا أن العقوبات التأديبية يمكن أن تجود بها سماء إدارتهم في أي لحظة، وما على المتضررين إلا هز أكف الضراعة إلى العلي القدير.
رجال الأمن..هؤلاء الرجال الذين نخافهم
"تحولت من حارس أمن إلى عنصر ضمن فرقة التدخل السريع بقدرة قادر، إذ جرى إعادة تدريبنا بالمعهد الملكي للشرطة بمدينة القنيطرة وإدماجنا من جديد دون مراعاة رغباتنا الشخصية ودون وضع شروط محددة لاختيار الراغبين في الولوج ضمن المجموعات الحضرية للأمن، التي جرى إقبارها.
أما بخصوص التوقيت فإننا مجبرون على العمل حسب الطوارئ 12 ساعة في اليوم، والكل يعلم أن رجال الأمن دائما في حالة استنفار وتأهب قصوى، وعن مقابل العمل فالله كفيل بالجزاء والتعويض، لأن الشرطي يعيش دائما على إيقاع انتظار نهاية الشهر لتبدأ المعاناة من جديد مع طي صفحة آخر يوم في الشهر وبداية يوم جديد من شهر آخر..."
كلمات جاءت على لسان حميد الذي وصف المعاناة التي يعيشها يوميا، وعجز لسانه عن سرد المزيد من القصص بدعوى أن الأمر يحتاج إلى مجلد لنقل المشاكل التي تعيشها هذه الفئة من الناس، تصريحات حميد لم تختلف كثيرا عن مفتش الشرطة كريم الذي عرف بين سكان المدينة القديمة بصرامته وعدم تساهله مع المشتبه بهم، اقتربنا منه وحاولنا لمس الجانب الإنساني داخله، تكلم معنا مفتش الشرطة كريم (اسم مستعار) وعيناه جاحظتان في زيه الرسمي، وكأنه يتبرأ منه، وبعد أن ألح على عدم تدوين اسمه الحقيقي والدائرة التي يعمل بها في المقال، صرح بأن مفتشي الشرطة بالدارالبيضاء أصابتهم مجموعة من الكوارث المهنية من بينها إدماج الكثير منهم ضمن الفرق الحضرية للأمن التي جرى التخلي عنها دون إنذار سابق، رغم أنهم اعتادوا العمل بالزي المدني وتلقوا تكوينا لمدة سنتين على أساس التخرج برتبة مفتش شرطة بالزي المدني، وحتى الذين سلموا من الاختيار العشوائي للالتحاق بـ"كرواتيا" فلم تتركهم الإدارة العامة للأمن الوطني دون أن تفرض عليهم ارتداء الزي الرسمي داخل الدوائر الأمنية أو خارجها، حيث لم يصبح هناك شيء اسمه (الحنشه) كما يتداول باللغة العامية، قبل أن يجري التخلي عن القرار من طرف المدير للإدارة العامة للأمن الوطني، الشرقي اضريس.
لم تسع العبارات كريم للتعبير عن لوعة (الحكرة) التي يحس بها، ضرب بيده الآلة الكاتبة التي أمامه والتي ادعى أنه اشتراها من جوطية درب غلف من ماله الخاص، كما أشار للأوراق التي بداخلها، وقال إن هذه الأخيرة تأتى من إدارة الأمن قليلة وغير كافية حتى لعشرة أيام. كما تحدث عن زوجات رجال الأمن اللواتي يصبحن بدورهن شرطيات رغما عنهن، أما عن حالات الانتحار التي يقوم بها رجال الشرطة بين الفينة والأخرى، فعزا أسبابها للضغط الحاصل وأشياء شخصية أخرى.
وبتنهيدة عميقة، وصمت يعجز الكلام عن وصفه بجرة قلم، أنهى كريم كلامه قبل أن تأتي على لسانه عبارة (غير خليها على الله).
ورغم كل هذا عبر كريم عن تفاؤله من القرارات الجديدة، التي جاءت بعد التخلي عن العنيكري وتعيين الضريس المدير العام لإدارة الأمن الوطني، كما صرح بأنه رفقة زملائه في العمل ينتظرون الترقيات والزيادة في الرواتب وأشياء أخرى بدأت تظهر تباشيرها.
دوائر بلا كراسيياسين، ضابط ممتاز فضل عدم ذكر اسمه الحقيقي لم يتوان بدوره في إفراغ كل ما بجعبته، ورغم أن الكثير من الموظفين معه يظنون أنه الأكثر حظا، نظرا للصلاحيات المخولة له وحتى الراتب الشهري الذي لا يعرف حقيقته إلا الراسخون في المهنة. غير أن المعني بالأمر كان له رأي آخر، "لقد أصبح معظمنا أقرب إلى السجن منه إلى مكان آخر، لأن كل ضابط مسؤول عن فرقة من عنصرين أو ثلاثة ومسؤول عن تأمين أزيد من 10 ساعات من العمل في اليوم، وكذا تغطية القطاع الذي يعمل فيه بمعنى أن الضابط يجب أن يوجد داخل المصلحة وداخل سيارة الشرطة التي تغطي القطاع في الوقت نفسه، إضافة إلى الأعمال النظامية وتأمين الأماكن الحساسة والإشراف على الموظفين العاملين معه، وكل هذا بأجرة شهرية لا تتجاوز 3500 درهم.(لم يكن لديه الوقت الكافي للإدلاء بشهادات أخرى غير أنه حمل المسؤولية الكاملة للإدارة العامة للأمن الوطني...)
تضطر بعض الدوائر الأمنية إلى جلب مجموعة من الكراسي القديمة من المتلاشيات التي يجري الاستغناء عنها من طرف الإدارات العمومية، لأن عدد المكاتب لا يوازي عدد الكراسي التي توفرها الإدارة العامة للأمن الوطني، وقد يقتني رجل الأمن آلة الرقن من ماله الخاص كما يضع عليها قفلا حتى لا يستعملها بقية زملائه، ولا تخضع الدوائر الأمنية لتصميم هندسي يراعي خصوصية المكان، بل إنها مجال يجري اختياره اعتباطا استجابة لمعايير يفرضها الواقع، فبعض دوائر الأمن، هي مبان كانت معدة أصلا للسكن وأخرى عبارة عن (كاراجات)، كما أنها لا تتوفر على أدنى الخصوصيات المفترضة، وهو أمر يصعب من مأمورية أفراد الشرطة.
للعلم فقطيتقاضى مفتش الشرطة 15 درهما كمنحة للملابس و115 درهما كمنحة للسكن، وبالمقابل تقتطع حوالي 400 درهم من راتب المفتش موزعة بين واجبات الصندوق المغربي للتقاعد والضريبة العامة على الدخل والتأمين على الحياة. مع العلم أن راتب مفتش الشرطة الصافي يتجاوز بالكاد الحد الأدنى للأجور، وللعلم فقط فمازالت الإدارة العامة للأمن الوطني تمنح رجال الأمن 3 دراهم للدراجة الهوائية، ولا يعرف العديد من رجال الأمن هذه العبارة، لأنها تعود إلى عهد الاستعمار حين كان رجال الأمن يتنقلون عبر دراجات هوائية، وبهزل عبر عدد منهم عن تخوفهم في حال مطالبة الإدارة بإرجاع هذه الدراجات التي يتقاضون عنها أجورا لإصلاحها في حال تعرضها للعطب!
يقول مصطفى وهو عميد شرطة "أظن أن عمداء الشرطة ورؤساء الدوائر مرغمون على تأمين الدوائر، أي أن كل عميد يجب أن يوجد بالدائرة يوما بكامله للإشراف عن العمل، وهؤلاء الرجال الذين يخافهم المواطنون (عمداء الشرطة) لا يتجاوز راتبهم الشهري 6000 درهم يمكن لأي تاجر أن يحصل عليها مع العلم أن التاجر يستفيد من أيام العطل والأعياد عكسنا نحن." تصريحات جاءت على لسان رجل يضرب له حراس الأمن ألف حساب ولا يدخلون بابه إلا بعد تحسسه وطرقه بهدوء، غير أن تصريحاته أبانت بأنه بدوره يخاف دورة الزمن اللعين.
داخل ما يدعى بالدائرةيثير انتباهك وأنت تلج أحد مراكز الأمن مشهد شرطي ببذلته الرسمية منهمكاً، أثناء أوقات العمل، في إصلاح أحد الأبواب المكسورة، مشهد لا يمت للخيال أو حتى للغرابة بصلة. فهذا المشهد هو واحد من الصور المعبرة عن إحدى الوظائف الرئيسية لرجل بالأمن بالمغرب إلى جانب وظيفته الطبيعية طبعا، التي هي الحراسة، الكتابة، شرطة الجلسات، نقل وحراسة المعتقلين، المرور والخدمات المؤدى عنها.
صورة تتكرر وإن بأشكال متعددة، مدهشة، فاعلة وصادمة، ومع ذلك فهي لم تثر أدنى حركة استغراب لدى أحد المنتمين إلى سلك الشرطة الذي هز كتفه دلالة على أنه أمر جرت به العادة في جميع المرافق التابعة للإدارة العامة للأمن الوطني.
استمرار علامات عدم التصديق والاستغراب ستدفع محاورنا لاحقاً، إلى تقديم نماذج لصورة كثيرة لا تختزل افتقار الدوائر الأمنية لأبسط التجهيزات فقط، بل ترسم علامة استفهام كبيرة حول شروط وظروف عمل طاقم الشرطة في بلادنا.
ونحن نتجول من مرفق إلى آخر، ومن مكتب إلى آخر، كانت الصورة تأخذ أبعادا مركبة وعصية على الفهم. وفي لحظة أخرى بدا مرافقنا في هذه الجولة وكأنه لم يستوعب حديث رجل الأمن أو لم يصدقه، لاسيما أن هذا الأخير لم يتمالك نفسه في كثير من الأحيان معبرا عن سخطه الكبير حول ظروف العمل، ومن أجل ذلك عاود (مرافقنا) طرح الأسئلة ذاتها بصيغ متعددة، وفي كل مرة كان يواجه الأمر بابتسامة «خبيثة» ما لبثت أن تحولت إلى قهقهات انتشلت رجل الأمن من درجة الاحتقان التي ازدادت حدتها لديه «شفتوا شكون هوما البوليس»، عبارة أطلقها، رجل الأمن بعفوية قبل أن يدعونا إلى معاينة مكان آخر.
"الله يعفو"يبدو أن رجال الأمن بدورهم مواطنون داخل المجتمع، ومسؤولية الإخلال بواجبهم يتحملها المسؤولون الأمنيون الكبار هؤلاء الذين يتحملون المسؤولية في تأخير الترقية على البسطاء، لأن هناك بعض رجال الأمن ينتظرون الترقية لأزيد من عشرين سنة، وهناك آخرون يتقاضون رواتب شهرية لاتتجاوز 400 درهم نظرا للديون الكثيرة ولسلفات السكن التي توجد في عاتقهم، وعن هذه الأخيرة فكل رجال الأمن تعرضوا لعمليات نصب من طرف ما يسمى بالسكن الاقتصادي لأنهم لم يستفيدوا من تخفيض نسبة الفائدة، وجرى التعامل معهم كباقي المواطنين، كل هذه المشاكل تظل قائمة في غياب نقابة لرجال الأمن تدافع عن متطلباتهم، لأن الجمعية الأخوية لرجال الأمن تعتبر تابعة للإدارة العامة للأمن الوطني، نظرا للخدمات الاجتماعية الضعيفة التي تقدمها، رغم أنها أول جمعية تعاضدية بالمغرب وتقدر مداخيلها بحوالي أربعة ملايير سنويا.
غادرنا مصلحة الأمن وعبارات من قبيل (الله يعفو علينا، وغير خليها على الله، وراحنا صابرين على ولادنا) تلاحقنا، ويتكرر صداها أكثر من مرة، الأمر الذي جعلنا نعلم جيدا بأنه يطول الكلام وما أحوجنا للعمل.
جلال رفيق | المغربية