"زمن المعجزات" للشكيري يفتتح مهرجان الفيلم الأمازيغي بآكادير
الصورة: ممثلو أمازيغ ليبيا في المهرجان أخبار الافتتاح- بلغ مهرجان إيسني وورغ للفيلم الأمازيغي دورته الخامسة. يديره رشيد بوقسيم وهو من نشطاء الحركة الأمازيغية الصاعدين
- كان الافتتاح باردا رسميا ودافئا شعبيا. كانت القاعة ممتلئة عن آخرها.
- كان افتتاح المهرجان فرصة للقاءات جديدة، بلغة مدسترة وبأمل في ربيع أمازيغي.
- لم يتمكن حسن أوريد من الحضور لأسباب ظرفية، ألقى كلمة عبر الهاتف.
- تحدث القباج وحيى محمد خير الدين.
- صعد أول ليبي خشبة في المغرب بالعلم الليبي الجديد. شعرت بقشعريرة حين الإنصات للنشيد الليبي بالأمازيغية. لقد كرهت القذافي دائما وبشكل لا نظير له.
- حضرت فاطمة تيحيحيت وهي محبوبة كثيرا.
- سلمت على فاطمة بوبكدي وحييتها على مسلسل حديدان، وهو يسمى في قبائل زيان وزمور "حمو الحرامي"، وهو نظير جحا الأمازيغي، وقد حكت لي جدتي نوادره.
نكتفي بهذا القدر من الأخبار وننتقل للسينما. هنا تحليل فيلم الافتتاح.
في قرية بأعالي الأطلس، حيث السرد الشفوي مصدر التسلية الوحيدة، تروي الأم لابنتها قصص الأنبياء. خاصة قصة عطش إسماعيل وأمه هاجر وانبثاق نبع زمزم من الحجر. لكن قبل ذلك تقلب الأم نعليها في باب البيت. هذا سر لا تعرفه الأجيال الصاعدة.
هكذا تبدأ أحداث فيلم "عصر المعجزات" من إخراج الحسين الشكيري، وبطولة كوثر غزول، كبيرة البردوز وعمر الطالبي. وقد عرض في الدورة الخامسة لمهرجان إيسني نورغ للفيلم الأمازيغي دورة أكتوبر 2011.
عادة عندما أقبل على مشاهدة فيلم قصير أطرح افتراضين، الأول أن يقدم الفيلم بحثا جماليا او موضوعاتيا أو هما معا. الثاني أن يكون ذلك البحث موفقا، أن يكون بحثا مثمرا، مدهشا، يحمل لمسة تعكس وجهة نظر مخرجه.
ليس من السهل العثور على هذا خاصة في الأفلام الأمازيغية التي طبعتها نمطية الفيسيدي، وفيها تمثيل جله كليشيهات وحوارات طويلة وقصص ملفقة بالفلاش باك والأحلام والجنون... مع الاعتراف طبعا بدور أفلام الفيسيدي على مستويين، الأول أنها قدمت لساكنة المنطقة، خاصة في الجبال، صورة عن واقعها بلغتها الأم. على المستوى الثاني وفرت للكثير من الشبان فرصة الاحتكاك المبكر بالكاميرا وجهاز المونتاج وتقنيات التصوير، بشكل تطبيقي، وهو ما لم يتوفر للشبان في مدن مغربية كثيرة.
الآن يجب أن ترتفع السينما الأمازيغية إلى مستوى المرحلة. والعمل الذي نتناوله خطوة نحو الأفق المرغوب.
في هذا الفيلم القصير الذي يمتد 23 دقيقة، بنى السينارسيت عبد النبي الدحيم عالما متكاملا بعدد قليل جدا من الشخصيات، وبما أن السيناريو - وهو القطعة الأرضية التي يبنى عليها الفيلم - قد كتب بمهارة فقد مكن ذلك المخرج من إضافة لمسته الخاصة، من تقديم تفسير مُرضي للنص.
ذلك أن للمخرج صلة بالمكان الذي يصوره بقرب شديد، صحيح أن الحسين الشكيري قد ولد وعاش في بلجيكا، لكن والده ينحدر من قرى الجنوب، لهذا يحمل في روحه هواجس المنطقة التي ينحدر منها... وبهذا الإحساس نتتبع في الفيلم نظرة المخرج القلقة على تيمة الماء والشجر، على الجذور التي انطلق منها والده ليتغرّب في أوروبا...
المكان هو بطل الفيلم، مكان يجف، والشخصيات فيه تتدهور معه عاجزة... تتحمل شظف العيش والعطش في أرض محجوجرة... فيلم له بعد توثيقي لنمط العيش القروي، فيلم بأثر السحر يمر سريعا دون أن يشبع منه المتفرج، يساهم في تحميل المتخيل الجمعي في الثقافة الأمازيغية من الشفوي إلى الصورة. ليفهم الجيل الشاب لماذا قلبت الأم نعلها قبل أن تبدأ الحكي. حسب تفسير جدتي، فعلت الأم ذلك لتحمي البيت من اللصوص، ومن كل شر، وهكذا تصير الأسطورة في خدمة الأمن.
شر نراه بعين طفلة بريئة يجثم عليها واقع اقتصادي ساحق. طفلة لا تصدق تطمينات أمها بأن والدها سيعود... أقرب ملاذ للأسرة هو الطريق التي تغري بالرحيل... الطفلة يامنة تكره الرحيل، تكره أن تُجتث من جذورها وتنتظر معجزة لتنقذها...
تجلس على هضبة قرب الطريق، تراقب مرور السيارات، أحيانا يتوقف أبناء المدن المدللين للاستراحة فيتراشقون بالماء. يلعبون لعبة زمزم دون عاشوراء، ماء معبأ ويبذرونه... لا يخجلون من أنفسهم، من فرط الأنانية لا يحسون بغيرهم.
تبنى المخرج وجهة نظر الطفلة القلقة من رحيل والدها وهي تتأمل مرتع طفولتها يَيْبسُ... تقارن بوجع، تراقب أولئك المدللين من موقع مرتفع، مكانيا وأخلاقيا. واضح أن الماء متوفر في المغرب، لكن توزيعه غير عادل. تمس لا عدالة توزيع الثروة كل شيء، حتى الضوء، فأعمدة التيار الكهربائي تظهر في خلفية الصورة، لكن الأم تحكي لابنتها على ضوء الشمع.
يرحل والد يامنة إلى المدينة من منطقة تفرغ من سكانها، يهجرها الذكور القادرين على العمل. مع هذه الهجرة الخارجية والداخلية، يفرغ المغرب العميق من رجاله، تبقى النساء ويصير مجتمع القرية أميسيا، وهو ما حصل في الفيلم، بقيت الام والإبنة والشجرة الشامخة. شجر الأركان لا يعوض الرجال.
ترك الأب ابنته وزوجته في ظل الأركانة العطشى، وهي مصدر زيت ورعي وحطب وظل وهوية، فهي بمثابة الجدة، كاتمة أسرار الطفلة التي بقيت في المغرب العميق، مغرب يعطش ولابد له من معجزة. والمعجزة المأمولة أن يأتي ملاك يضرب الأرض المحجوجرة بجناحه لينبجس الماء وتشرب الأسرة المهجورة من نبع صاف.
وفرت جغرافية المكان مواقع مختلفة للكاميرا لتطل على فضاء شاسع جعل عمق الكادر جذابا... ومن على تلك الهضبة، مازالت يامنة تنتظر بكبرياء... وقد قدم موقع التصوير إضافة كبيرة للفيلم. فبفضل روبيراج ذكي جرى التصوير في ديكور يوفر متعة للعين. جرى تقديم المكان بشكل ممنهج، فنحن لا نتعرف عليه دفعة واحدة، بل نكتشف تفاصيله على مراحل...
وقد بدأ الفيلم بلقطة دامت عدة دقائق دون أن ترْمش الكاميرا... بذلك أعلن المخرج أسلوبه الذي قدم صورا مؤثرة في لقطات مشهدية plans séquences تم الحصول عليها بفضل تنظيم جيد لحركة الممثلين أمام الكاميرا، سواء في العمق أو في المرور العرْضي... وقد جرى استخدام سلم لقطات متنوع مع غلبة اللقطات المتوسطة plan de demi ensemble (PDE)، وهي تعرض المشهد دون تفاصيله، لكن تظهر الشخصية ضمن الديكور الذي تتحرك فيه. وقد استخدم المخرج الحسين الشكيري اللقطات الكبيرة grand plan باقتصاد لأنها تقصي الديكور من الشاشة، وبذلك تمنح الكاميرا المتفرج الإحساس بأنه يعيش داخل الأحداث وفضائها معا.
ولزيادة درجة انغماس المتفرج في واقعية الفيلم، تم توظيف المؤثرات الصوتية في لحظات التوتر. وهكذا نسمع الغنم تثغوا ونسمع صراخ طفل يرفع إيقاع اندماج الطفلة في قصة النبي التي سمعتها من أمها... حينها تجد يامنة الحل، تقرر أن تنجب طفلا من أجله سينبجس الماء من الصخرة تحت الأركانة الشامخة...
تتناص قصة يامنة مع قصة إسماعيل فتتكشف المرجعية الدينية لسرد. وقد استخدمت التشابهات كوسيلة لعرض وتكثيف موضوع الفيلم. ففي القصة القديمة يهجر إبراهيم الخليل زوجته وابنه بأمر إلهي. بسبب الحاجة للماء تجري هاجر بين الصفا والمروة سبع مرات فينبجس نبع زمزم. في فيلم "زمن المعجزات" رحل لأسباب اقتصادية. رحل حزينا دون أن يردد دعاء إبراهيم الخليل " رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ". لذا تجري يامنة بين الحجر قرب الأركانة وتتوهم أن طفلا يصرخ حولها، يستنجد بها من العطش، لكن الطبيعة لا ترحم، والماء لا ينبجس من الصخر... لا معجزة تنقذ المغرب العميق من العطش... هذه هي الحقيقة المرة، زمن المعجزات ولى. لكن الفن السابع يستعيدها ليمنحنا أفقا لنستمر في العيش...
bnzz@hotmail.com محمد بنعزيز